أبرم شبيرا
يربط اشوريو اليوم
اصولهم التاريخية بالاقوام الاشورية التي حكمت شمال ما بين النهرين
(العراق حاليا) في الالف الاول قبل الميلاد بجملة روابط حضارية
تاريخية ومعطيات ثقافية تراثية ظلت لصيقة بهم على رغم الفواجع
والنكبات التي حلت بهم طيلة تاريخهم المديد. ومن هذه الروابط
ممارسات تراثية تستمد جذورها من اعماق التاريخ القديم وتمتد الى
البدايات الاولى لمرحلة نشوء وتدوين احداث العهد القديم (التوراة).
ولعل الاكثر اثارة وبروزا من الممارسات التراثية "صوم نينوى" الذي
تتداخل فيه مجموعة عوامل قومية ودينية تداخلا مترابطا يصعب الفصل
بينهما وتتعسر مهمة تحديد اصولها القومية المادية وفرزها عن الاصول
الدينية الروحية. فخلال هذه الايام، وتحديدا من السادس الى الثامن
من شهر شباط(فبراير)، يحتفل الاشوريون بهذه المناسبة والمعروفة
عندهم بـ"باعوثا د نينواية" اي صوم او نذر النينويين.
قبل الاكتشافات الاثرية
التي ازاحت الكثير من الغموض والاسرار عن التاريخ القديم لشعوب
الهلال الخصيب، كانت التوراة المرجع الاساسي -ان لم يكن الوحيد-
لاخبار شعوب هذه المنطقة، خصوصا البابليين والاشوريين. ومن جملة ما
ورد في التوراة عن الشعب الاشوري "صوم نينوى" الذي وقعت احداثه بين
القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد وفي مدينة نينوى عاصمة
الامبارطورية الاشورية، ودونت قصته في سفر يونان التوراتي وهو
معروف عند العرب باسم "النبي يونس".
جاء في هذا السفر ان
الرب طلب من النبي يونان حمل رسالته الى اشور، وهي المملكة التي
قامت بتدمير مملكة اسرائيل في حدود العام 722ق.م. وعندما استلم
يونان الرسالة ابت عليه عواطفه اليهودية ان يحذر مملكة هاجمت
اسرائيل ونهبت كنوز معبدها، وبعد سلسلة احداث وتجارب مريرة مر بها
يونان بما فيها قصة الحوت الذي ابتلعه لمدة ثلاثة ايام وثلاث ليال
ومن قذفه الى الشاطئ... اذعن يونان الى امر الرب فانطلق الى نينوى
عاصمة الاشوريين ليبلغ اهلها وملكها سنحاريب (705-681)ق.م. بقضاء
الله. وعندما دخلها بدأ ينادي قائلا: بعد اربعين يوما تتدمر
المدينة". فآمن الشعب بالرب واعلنوا الصيام وارتدوا المسوح من
كبيرهم الى صغيرهم. ثم بلغ انذار النبي ملك نينوى فقام عن عرشه
وخلع عنه حلته وارتدى المسح وجلس على الرماد ثم دعى جميع رعاياه
الى الامتناع عن الاكل والشرب، وكذلك البهائم والغنم والبقر لا
ترعى ولا تشرب ماء. وطلب من جميع الناس ان يرتدوا المسوح متضرعين
الى الله تائبين عن طريقهم الشريرة وعما ارتكبوه من ظلم. فلما راى
الله اعمالهم وتوبتهم عن طرقهم الاثمة عدل عن العقاب الذي كان
مزمعا ان يوقعه بهم وعفا عنهم (3:10). وهذا ما سبب غيظ يونان وغضبه
الشديدين بسبب كون الله رحيما رؤوفا مع الشعب الاشوري وملكه، وبطئ
الغضب كثير الاحسان يرجع عن العقاب. لذلك فضل يونان الموت على
الحياة (4:3) لان الرب لم ينتقم من الاشوريين وملكهم، وهذا ما يؤكد
حقد اليهود على الاشوريين في تلك الازمنة، كما يؤكد هذا السفر من
التوراة ان عبادة الله ومخافته والتضرع اليه طلبا للغفران والتوبة
لم تكن حكرا على اليهود وحدهم في تلك المرحلة، بل شملت الشعوب
الاخرى ايضا ومنها الشعب الاشوري.
وعندما تمت الاكتشافات
الآثارية في المدن الآشورية المطمورة في القرن الماضي وبداية هذا
القرن، واماطت اللثام عن بعض الغموض الذي يكتنف الشعب الآشوري
وكشفت جانباً من اسرار او التباسات بعض الوقائع التاريخية، فإنها
اكدت بعض الاحداث التي دونت قصصها في التوراة ونفت احداثاً اخرى بل
وتناقضت مع بعضها الآخر. وبقدر ما يتعلق الأمر بقصة مجيئ يونان الى
نينوى وتبليغ رسالة الرب الى الآشوريين وتحذيرهم من دمار المدن
العظيمة، كما توصف في التوراة، فإن الآثار والرقم الطينية
والإسطوانات الكتابية المكتشفة في خرائب نينوى وغيرها من المدن
الآشورية والتي تعد اكثر تفصيلاً وتدويناً للأحداث التاريخية
ووقائعها من اي أثار اخرى مكتشفة في بلاد مابين النهرين، خصوصاً
حول علاقة الآشوريين وملوكهم باليهود وأنبيائهم، لا تحمل اي إشارة
الى النبي يونان وقدومه الى نينوى. بل على النقيض من ذلك. نرى ان
فترة حكم الملك سنحاريب اتصفت -الى جانب التفاصيل الدقيقة عن
الحروب التي شنها ضد اليهود وغيرهم من الأقوام- بإنجازات كبيرة
واعمال ضخمة في البناء والتعمير، خصوصا في مجال الري وتنظيم السقي
والسيطرة على المياه وخزنها وتوزيعها في ظروف بيئية وموسمية مختلفة
ومتباينة عندما كانت الأنهر تفيض في نهاية الشتاء وبداية الربيع
وتشح ويجف بعضها في منتصف الصيف وبداية الخريف، مما يوحي بأن
الفيضانات كانت عاملاً حاسماً في تهديد استقرار الاوضاع الاقتصادية
والسياسية في بلاد آشور.
وبغض النظر عن طبيعة
الحدث الذي فرض بقوته على الشعب الآشوري الزام نفسه بالصوم خشوعا
للرب فإنه يؤكد بما لا يقبل الشك حقيقة تاريخية شكلت في سياقها
الزمني وامتداداتها التاريخية ممارسة طقسية تراثية، قومية ودينية،
ارتبطت بالشعب الآشوري فترة تزيد عن سبعة وعشرين قرناً. فبعد سقوط
الامبراطورية الآشورية العام 605 ق.م. فإن الفلاحين والمزارعين وهم
غالبية سكان بلاد آشور استمروا بعد انتهاء الحروب واستقرار الاوضاع
واعادوا بناء قراهم قرب مدنهم الكبيرة، وواصلوا ممارسة مهنهم
الزراعية وطقوسهم الدينية والتراثية وهناك دلائل تاريخية تشير الى
أن الآشوريين مارسوا اعيادهم ومناسباتهم التقليدية خلال تلك الفترة
ومنها عيد رأس السنة القديمة الذي كان يصادف في الاول من نيسان من
كل عام (ولا يزال الآشوريون يحتفلون بهذا العيد ايضاً في ايامنا
هذه).
وبعد ظهور المسيح عليه
السلام، واعتناق الآشوريين المسيحية وهي في سنواتها الاولى، اصبح
للتوراة وقع كبير على الشعب الآشوري وتأثير عميق في احياء ذكرياتهم
القومية التاريخية عن بلادهم ومدنهم وملوكهم، خصوصاً عظمة نينوى
التي شكلت محور اساطير العهد القديم بما فيها قصة قدوم النبي يونان
اليها وخشوع الملك سنحاريب لإرادة الرب. وتدلنا مخطوطات كنيسة
المشرق الآشورية التي دونها القديس مار افرام السرياني (أو
الآشوري) (306-373م) الى ممارسة الآشوريين لهذا الصوم كانوا يصومون
لمدة 40 يوماً خصوصاً في اوقات الأزمات او خلال المذابح ضد اتباع
كنيسة المشرق من قبل الفرس واتباعهم.
وبسبب ارتباط تاريخ
الآشوريين وكنيستهم بالمآسي والفواجع والتشرد من اوطانهم وخضوعهم
لشتى انواع الإضطهادات، ارتبط هذا الطقس بهم طيلة تاريخهم الطويل
وتواتروا على ممارسته حنى انتظامه سنوياً في العصور الحديثة بشكل
ثابت ومستقر، وادرج في التقويم الكنسي لكنيسة المشرق واعتبر من
المناسبات المهمة التي ينتظرها الكثيرون ممن يسعون الى تحقيق
آمالهم عن طريق الصيام والتورع الى الرب خالق الجميع. ولكن في
الآونة الاخيرة وبسبب ظروف العصر اختصر الصوم الى ثلاثة ايام، وهو
اما الانقطاع نهائياً عن الاكل والشرب او اقتصار ذلك على الصيام ثم
الافطار ظهراً بتناول مواد غذائية نباتية فقط، ويختم الصوم في
اليوم الثالث بإقامة القداديس في الكنيسة مع توزيع المذابح والنذور
في الباحة.
وكان من الطبيعي ان يرتبط بهذا الطقس الديني القومي، عبر مراحل
تطوره التاريخي، جملة ممارسات وعادات بعضها اكتسب طابعاً غيبياً
اسطورياً يتعلق بالتمنيات والرغبات التي لم يتمكن الآشوريون ضمن
ظروفهم المأسوية من تحقيقها في الواقع المادي. ولا يخلو قسم من هذه
التقاليد من الطرافة والفكاهة وبراءة الايمان ومنها ما يعرف باللغة
الآشورية بـ (بوخن)، وهي بالاصل مادة غذائية تتكون من تحميص سبعة
انواع من الحبوب الشائعة الاستعمال تطحن معاً ثم تملح وفي الليلة
الاخيرة من الصوم تؤخذ كمية منها يتم تقديرها عن طريق وضع ابهام
اليد ثلاث مرات في (بوخن) وتحميل ظهر الابهام (الظفر) بها ثم دفعها
تحت اللسان والركون الى النوم بأمل الحلم بأحلام تحقيق آمالهم
المستعصية. وجانب الطرافة في هذا الطقس يقوم على كون مادة (البوخن)
مملحة وتسبب العطش وجفاف الفم وهما مصدر احلام الشبان والشابات
العازبين الذين يعتقدون بأنهم سيحلمون بشخص يروي عطشهم ويكون فارس
المستقبل او عروس الغد. |