سبريشوع بن المسيحي [الخامس]: (1226 - 1256)

 

 أما خلف سبريشوع بن قّيوما فكان مطران باجرمي، أبو الفضل بن أبي الخير، سبريشوع بن المسيحي من أسرة أولئك الاطباء البغداديين الذين صادفناهم من قبل. وقد انتخب بالاجماع بعد خلوّ الكرسي ما يقارب السنة. ويتّهمه ابن العبري كالعادة، بأنّه حصل على المنصب "بالذهب" (؟) سواء من ماله أو من أخوته "الرجالات الاخيار والأبّاء المشاهير". وقد منحه الخليفة الظاهر عهد التولية مع أعفائه من الرسوم.

دامت جثلقة ابن المسيحي واحدا وثلاثين عاما، في خلافة الظاهر والمستنصر والمستعصم. يثني الجميع على حسن تدبيره أمور الرعيّة، ولكنّنا لا نجد شيئا في التراجم المخصّصة له عن أحوال النصارى في عصره، أي أواخر أيّام بني العباس. من الجائز أن تكون علاقات أسرة الجاثليق بأهل الطبّ، وبالتالي بأهل البلاط قد سهّلت خلق جوّ ودّي في التعامل مع النصارى على وجه الاجمال. كانت هذه الظروف مؤاتية جدّأ، وهذا ما حدا بأبي صاعد عبد الرحمن بن محمد بن دواست لأن ينشد قبل ذلك بحوالي القرن:

لّـمـا رأيـت الـجـسـمَ ذا اعـتـلالِ          ودبـــًت الآلام فــــي أوصــــالـــي

دعوت شيخا من بني الجوالي          بــطــريــق عــمً جــاثـلـيـقَ خــالِ

امتدت جثلقة سبريشوع بن المسيحي أربعة عشر عاما في ظلّ خلافة أبي أحمد عبدالله المستعصم بالله بن المستنصر. إنّ هذا الرجل الذي كان آخر خلفاء بني العّباس، لم يكن أبدّا في مستوى الظروف الحرجة التي اضطرّ الى مواجهتها. فقد كان "رجلا خيّرا متديّنا ليّن الجانب سهل العريكة عفيف اللسان، حمل كتاب الله تعالى وكتب خطٌا مليحاّ . . . إلا أنّه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش قليل الخبرة بأمور المملكة. وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني . . .  وفي بعض الاوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسا ليس فيه كبير فائدة" وكان عقله وعقل الصبيان لا يميز الخير من الشر، أنفق زمانه يلعب الحمام والالتهاء بالطيور"، ولم تكن لديه "الفطنة ولا القوة الكافيتان لدرء الخطر المغولي" الذي كان على وشك الاطاحة به وبخلافته.

لا نكاد نشعر، لدى وفاة الجاثليق سبريشوع (654 \ 20 أيار 1256)، أي قبل سنتين من سقوط بغداد، ولدى إقامة عملاء هولاكو اتصالات بالوزير مؤيد الدين بن العلقمي، لا نكاد نشعر بأصاغر العمال الذين ما زالوا يمارسون تدابيرهم القهرية لاعتصار ما يقدرون عليه من الناس المغلوبين على أمرهم، والذين نجد في صفوفهم أهل الذمّة، في أغلب الاحيان.

فمن ذلك أنّ الصليحية "ناظر ديوان التركات ختم على جميع ما في القلاّية" عقب وفاة الجاثليق. و"في اليوم الثالث جاء والي بيت مال المسلمين وعمل باليد القوية غير الواجب وفتح الختوم وأخذ جميع ما وجد في القلايية والكتب والبيرونات وأحضرها قدام الخليفة (؟) وردّ الكتب ووهبالبيرونات لابن وحيد (؟) واشتريت منه من مال الوقف وأٌعيدت "من اجل خلَف الجاثليق"، على قول صليبا.

اما عن اختيار هذا الخلف فان السيناريو الذي جرت به عادة القوم، مع الاسف، قد صار "طبيعيا" الى حد انه يبدو غير معقول اذا ما نظر اليه في سياقه التاريخي: ففي هذه السنة نفسها (1256) خلقت إيلخانة "بلاد المغرب" التي ولاّها مونكا، الخان المغولي الكبير، إلى هولاكو أوغل وأمره بأخذ بغداد وإبطال الخلافة.

وفي حال قد تبدو لنا اليوم أشبه بحال اللاوعي، انطلق الاساقفة المسيمون في مكائدهم التقليدية "وطلب كل واحد الرياسة لنفسه". واستمرت المماحكات أكثر من عشرة أشهر، وتأرجحت الاراء بين أربعة مرشْحين.

مرة آخرى، نجد ابن العبري اليعقوبي يقدم لنا التفاصيل: وضعت السلطات المدنية الجثلقة في المزاد عمليا. ووصلت المزايدة إلى أربعين ألف دينار ذهبا، وقد كاد دنحا، مطران إربل الذي دفع عربونا قدره 4000 دينار، أن يجمع بقية المبلغ لولا أن حاول بعضهم أن يسد عليه الطريق إذ اتهمه لدى السلطات الاسلامية بمكاتبة . . . ملك التتر، فمن علائم هذا الزمن نسيان الروم، لقد تغيّر اسم العدو! أما النصارى الذين فرّق دنحا فيهم الرشا فقد أٌنذروا "بأن كل ما يصلكم منه اليوم سيطلب منكم أضعافه غدا".

أصغى خواص الخليفة إلى ما أٌتهم به دنحا، واستدعى الخليفة (؟) المرشحين، ففضّل "كهل نصيبين"، المطران مكّيخا، على "فتى إربل"، دنحا، الذي كان عليه أن ينتظر دوره.